
نزيف العقول العلمية في السويد: 40٪ من حملة الدكتوراه يغادرون بسبب تشديد قوانين الهجرة
24/12/2025
في السويد، لم تعد سياسات الهجرة الصارمة تستثني أحدًا، حتى أولئك الذين يُفترض أنهم يشكّلون العمود الفقري لمستقبل البحث العلمي والابتكار مثل طلاب الدكتوراه بالجامعات السويدية، الذين يُنظر إليهم عادة بوصفهم نواة الرؤوس العلمية وقاعدة العلماء في التخصصات الحساسة، باتوا اليوم ضمن الفئات الأكثر تضررًا من التحولات السياسية والتشريعية في ملف الهجرة. بعد أن كان الطريق مفتوحًا أمامهم للعمل، والاستقرار، والحصول على الإقامة الدائمة ثم الجنسية، أصبح وجودهم في البلاد مهددًا، واستقرارهم بعد إنهاء الدراسة أشبه بمغامرة غير مضمونة العواقب.
هذه التحولات لا تأتي من فراغ، بل تتزامن مع نهج حكومي متشدد تقوده حكومة ائتلافية تحظى بدعم قوي من حزب “سفيريا ديموكراتنا” وزعيمه جيمي أوكسون، المعروف بمواقفه العدائية تجاه الهجرة عمومًا، وتجاه المهاجرين والمسلمين على وجه الخصوص. ووفق منتقدي هذه السياسة، فإن التضييق طال حتى الهجرة العلمية، في خطوة يصفها كثيرون بغير المبررة، خصوصًا في بلد لطالما قدّم نفسه كوجهة عالمية للبحث والمعرفة.
استطلاع حديث كشف حجم المشكلة بشكل صادم. إذ أظهر أن نحو 40 بالمئة من الحاصلين على شهادة الدكتوراه في السويد يغادرون البلاد خلال ثلاث سنوات فقط من تخرجهم. خبراء وصفوا هذه الأرقام بأنها نزيف حقيقي للعقول، وفشل واضح في الحفاظ على كفاءات أنفقت الدولة على تعليمها وتدريبها ملايين الكرونات.
الاستطلاع أُجري من قبل اتحاد أرباب العمل السويدي (Svenskt Näringsliv)، وركّز على أربعة مجالات تُعد من أكثر القطاعات استراتيجية في المستقبل القريب: الذكاء الاصطناعي، وأشباه الموصلات، والتقنيات الكمية، والتقنيات النانوية. النتائج حملت مفارقة لافتة: السويد ما زالت قادرة على جذب الطلاب الدوليين المتميزين، لكنها تفشل في الاحتفاظ بهم بعد حصولهم على أعلى درجة علمية.
الأرقام تصبح أكثر إثارة للقلق عند التعمق فيها. فحوالي 70 بالمئة من طلاب الدكتوراه في هذه التخصصات يأتون من خارج السويد، وترتفع النسبة إلى قرابة 80 بالمئة في مجال الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، يغادر أربعة من كل عشرة باحثين البلاد بعد التخرج، متجهين إلى دول مثل الولايات المتحدة أو الصين، في وقت تخوض فيه هذه الدول سباقًا محمومًا على الريادة التكنولوجية وجذب أفضل العقول.
مسؤول السياسات البحثية في Svenskt Näringsliv، إميل غورنيروب، وصف الوضع بأنه هجرة عقول بكل ما تحمله الكلمة من معنى، معتبرًا أن الخلل لم يعد هامشيًا بل بنيويًا. وأشار إلى أن السويد تستثمر مبالغ ضخمة في تعليم هؤلاء الباحثين، ثم تتركهم يغادرون ليستفيد من خبراتهم ومهاراتهم اقتصاديات وشركات في دول أخرى.
الدراسة ربطت هذه الظاهرة بعدة عوامل متداخلة، على رأسها تعقيد قوانين الهجرة، وطول فترات الانتظار لمعالجة طلبات الإقامة، إضافة إلى صعوبة الحصول على وظائف مستقرة بعد إنهاء الدراسة. هذه العوامل مجتمعة تجعل مستقبل الباحثين غير الأوروبيين في السويد ضبابيًا، حتى بعد سنوات طويلة من الدراسة والعمل داخل الجامعات السويدية.
البروفيسورة سارا مانغسبو من جامعة أوبسالا لخصت المشكلة من زاوية أكاديمية وإنسانية في آن واحد. فهي ترى أن كثيرًا من طلاب الدكتوراه يعيشون ضغطًا هائلًا في المرحلة الأخيرة من أبحاثهم، لأنهم مطالبون في الوقت نفسه بإنهاء أطروحاتهم والبحث عن وظيفة طويلة الأمد تضمن لهم الإقامة الدائمة. هذا التداخل، بحسب قولها، يشتت تركيزهم ويؤثر سلبًا على أدائهم العلمي. وترى مانغسبو أن المنطقي هو توفير فترة انتقالية بعد الدكتوراه، تسمح للخريجين بالاندماج في سوق العمل دون أن يكون سيف الإقامة مسلطًا على أعناقهم.
على المستوى الفردي، تعكس تجارب الباحثين حجم التفاوت في المعاناة. الباحثة الإسبانية أريادنا سورو ألفاريز تُعد من الحالات التي تمكنت من الاستمرار في السويد. جاءت قبل سبع سنوات، درست في جامعة KTH، ثم حصلت على الدكتوراه في التقنيات الكمية من جامعة تشالمرز، وتعمل اليوم في معهد نورديتا للفيزياء النظرية. لكنها تعترف بأن وضعها أفضل نسبيًا فقط لأنها مواطنة في الاتحاد الأوروبي.
أريادنا تقول إنها أحبت السويد منذ اللحظة الأولى، وترغب في بناء حياتها فيها مع شريكها السويدي. لكنها تشير إلى أن زملاءها القادمين من خارج الاتحاد الأوروبي يواجهون صعوبات قاسية بسبب قوانين الإقامة. فخلال فترات انتظار القرارات، يُمنعون حتى من السفر، سواء لحضور مؤتمرات علمية دولية أو لزيارة عائلاتهم، ما يضعهم في عزلة مهنية وشخصية خانقة.
وتضيف أن التعديلات التي أُدخلت على قانون الأجانب عام 2021 زادت الوضع تعقيدًا، بعدما أصبحت تصاريح الإقامة مؤقتة، وربط الاستمرار في البلاد بالحصول على وظيفة دائمة أو طويلة الأمد مباشرة بعد التخرج، وهو شرط يصعب تحقيقه في سوق عمل تنافسي.
إلى جانب ذلك، تبرز اللغة كعائق إضافي. أريادنا ترى أن غياب تعليم اللغة السويدية ضمن برامج الدكتوراه يمثل ثغرة كبيرة. فالجامعات لا تدمج دورات اللغة في البرامج الرسمية، ما يضطر الطلاب لتعلمها في أوقات فراغهم وعلى نفقتهم الخاصة، وهو أمر مرهق لمن يسعى في الوقت نفسه لإنجاز بحث علمي عالي المستوى. هذا النقص يضعف فرص الاندماج في سوق العمل، أو حتى التفكير في إنشاء مشاريع خاصة.
كما تشير إلى غياب التدريب العملي الممنهج خلال الدكتوراه، وتقارن الوضع بتجارب في دول مجاورة مثل فنلندا، حيث يُعتبر التدريب جزءًا إلزاميًا من البرنامج، ما يسهل الانتقال من الجامعة إلى سوق العمل.
في المحصلة، يحذّر غورنيروب من أن استمرار هذه السياسات قد يكلّف السويد موقعها كإحدى الدول الرائدة في البحث والابتكار، خصوصًا في المجالات التكنولوجية الحساسة. ويرى أن المسألة لم تعد مجرد ملف هجرة، بل قضية تتعلق بمستقبل القدرة التنافسية للبلاد. فإما أن تنجح السويد في توفير بيئة قانونية ومهنية تحتفظ بالكفاءات التي تخرّجها، أو تستمر في تدريب العقول ثم تسليمها طوعًا لمنافسين عالميين لا يترددون في استقبالها.
إقراء ايضا:
معلومات عن كيفية الحصول على قبول جامعي لدراسة الدكتوراه في السويد
مهاجر رائد أعمال يتم ترحيله من السويد.. فتستقبله إستونيا وتسمح له بالبقاء!









