مقالات رأي

كاتب سويدي: أنت في السويد… لكنك لست في السويد.. مشهد فاضحاً بطريقة لا تحتاج شرحاً!

مقال مترجم .. مقالات صحفيين سويديين في الإعلام السويدي

بدأ النهار في بلدية كيستا في العاصمة ستوكهولم  كما لو أنه مشهد اعتيادي في ستوكهولم… لكنه لم يكن كذلك… كيستا — المنطقة السكنية الضخمة شمال العاصمة السويدية ستوكهولم التي تحوّلت تدريجياً إلى أكبر مركز استيطان للهويات المهاجرة — كانت تبدو أقرب إلى عالم منفصل يعيش داخل جسد بلد آخر..  ولكن كيستا مثال وأحد لعشرات البلديات والمناطق السكنية في السويد التي فقدت هويتها وانتماءها للسويد ، حيث تم استيطانها من قبل مهاجرين أجانب جاؤو بغزو من الخارج .
دخلت كيستا غاليريا، مشيت بين المحلات، تحدثت مع التجار، راقبت حركة الناس… ومع كل خطوة، كان الإحساس يكبر داخلي:
أنت في السويد… لكنك لست في السويد.




كان المشهد فاضحاً بطريقة لا تحتاج شرحاً. وأنت كقارئ تفهم ما أريد أن أقوله ..لا شئء هنا يشبه السويد والسويديين،، تحقيق صحفي بسيط كنت أقوم به  تحوّل أمام عيني إلى مرآة تكشف انهيار الهوية وغياب السياسة وتهشّم الرابط الذي يجمع أمة سويدية وأحدة كاملة!..  ظلت المشاهد تطاردني بعد العودة لمنزلي. ولم تكن مجرد ملاحظات عابرة، بل صدمة حضارية:

ما الذي يحدث حين تُسحب اللغة من مجتمع؟ وماذا يبقى حين يفقد شعبٌ صوته؟ والأقسى من هذا كله: من الذي يقرر لمن تنتمي الأرض… ولمن لا تنتمي؟

 

أقسى لحظة خلال جولتي كانت عندما مرّ أمامي فوجان من الأطفال—قرابة خمسين طفلاً تتراوح أعمارهم بين 8 و9 سنوات. نظرت إليهم بسرعة… ثم بتمعّن. ولم يكن بينهم طفل واحد من أصول سويدية. ولا واحد. بعض الفتيات كنّ يصلحن الحجاب ويضحكن… والأطفال يتحدثون لغات أخرى ليست سويدية. عندها ارتطم السؤال داخلي بقوة موجعة: كيف تحوّلت السويد إلى مكان لا تستطيع أن تجد فيه السويد؟




تذكرت ذكرياتي عندما كنت طفلاً   كانت ذكريات السويد جزءاً من هوية كاملة تنتزع الآن من جذورها.
حينها أدركت أن ما رأيته في كيستا لم يكن “تنوعاً” ولا “هجرة” ولا “اندماجاً”. كان شيئاً آخر تماماً:
انفصال… وتحوّل… وتمدد ثقافي يبتلع هوية السويد الأصلية. كيستا لم تكن حادثة عرضية. كانت تحذيراً صريحاً—جملة مكتوبة بحروف كبيرة على جدار البلد: هذا ما يحدث حين تتوقف الدولة عن حماية ثقافتها. فلعقود كاملة، روّجت التيارات اليسارية والحزب الاشتراكي رواية واحدة:

– السويد لا تملك ثقافة فهي بلد متعدد الثقافات.
– الجميع سويديون.
– أي حديث عن الهوية هو تعصب.
– أي خوف هو مبالغة.
– أي تمسّك بالتقاليد هو جهل. رواية كانت ثابتة، متواصلة، بلا توقف.




أتذكر لحظة سقوط القناع حين سأل جيمي أوكيسون  : “إذا ركبت المترو في طوكيو وعشت في طوكيو وأكلت في طوكيا … هل أصبحت يابانياً؟” السؤال أسقط الفكرة من جذورها، كونك مهاجر هنا في السويد لا يعني أنك سويدياً . ومع ذلك… استمرّ مشروع الهجرة والاندماج. الذي يقول أن السويد ملك للجميع… إلا للسويديين أنفسهم.




والكلمة التي يرفض الجميع قولها هي: استعمار. ليس استعمار جيوش، بل استعمار ناعم: بل استبدال هوية بأخرى، لغة بأخرى، قيم بأخرى… شعب بأجيال لا تحمل أي صلة بالجذور التي قامت عليها الدولة. في هذا الفراغ، ظهرت هويات أقوى وأكثر صلابة: هوية الإسلام السياسي. هوية العشيرة. هوية المجتمعات الموازية. وكنت أرى ذلك يومياً عندما عملت مدرساً في Konstfack. ملفات طلاب سويديين تُستبعد قبل التقييم، وأي اعتراض كان يُقابل ببرود.
كان هناك خط واحد:
إضعاف السويدية، ثم إزاحتها، ثم السخرية منها.
ورأيت العلم السويدي محطماً داخل إطار فني يسمونه “تقدّماً”. ورأيت فتياناً سويديين يُهانون. وفتيات يُنعَتن بالكلمات القذرة من شباب يحملون قيماً ذكورية جاءت معهم من بلدان بعيدة. ورأيت أطفالاً سويديين يُلقّنون أن تاريخهم عبء… وأن أمانهم ذنب… وأنهم يجب أن يخجلوا من كل ما هم عليه.





والسؤال القاسي:
كم يمكن أن يصمد شعب يُطلب منه يومياً أن يختفي؟

الإعلام لم يكن محايداً. كان جزءاً من المشروع. قدّم رواية واحدة… وخنق الرواية الأخرى. السويديون لم يصوّتوا ضد أنفسهم لأنهم “سذج”… بل لأن الحقيقة حُجبت عنهم عمداً. اليوم تقف السويد أمام مفترق لا يقبل التردد.
لأن الدول لا تعيش بلا لغة مشتركة، ولا ذاكرة موحدة، ولا إحساس جمعي بأن “نحن” ما زالت موجودة.

من دون ذلك… لا توجد دولة. بل فسيفساء مشتعلة من الجماعات المتصارعة. كيستا ليست المشكلة. كيستا النتيجة. الصورة المسبقة لما سيحدث إن لم يتحرك أحد. هناك، في شوارع كيستا، لمحت السويد وهي تنزلق بعيداً من بين أيدي شعبها. ومع ذلك… الطريق ليس مغلقاً. الهوية يمكن استعادتها. لكن بشرط واحد: امتلاك الشجاعة لقول الحقيقة كما هي… لا كما يريد الآخرون سماعها. لأن من يخسر وطنه… لا يخسر أرضاً فقط، بل يخسر ذاكرته ومستقبله… وأطفاله.



مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى