
ترى مالا نرى وتسمع مالا نسمع.. ما سر غموض القطط؟
العالم الذي يبدو لنا صامتا وغارقا في الظلام يتحول في منظور القطط إلى لوحة مليئة بالحركة والضوء والروائح الخفية (شترستوك) القطط، هذه الكائنات التي اعتدنا رؤيتها حتى أصبحت جزءا من حياتنا اليومية، ليست مجرد حيوانات أليفة عادية، فهي تحمل في جسدها الصغير مجموعة من القدرات الحسية والعصبية التي تضعها في مرتبة مدهشة بين الكائنات.
يكفي أن تراها تمشي على حافة رفيعة أو تقفز من ارتفاع إلى آخر بدقة لا تخطئ، لتدرك أنك أمام مخلوق يمتلك علاقة خاصة بقوانين التوازن والجاذبية.

فن الاستشعار
في الليل، حين تسكن المدينة وتخفت الأصوات، تفتح القطة عينيها لتبدأ حفلتها الحسية الخاصة. العالم الذي يبدو لنا صامتا وغارقا في الظلام، يتحول في منظورها إلى لوحة مليئة بالحركة والضوء والروائح الخفية؛ إنها لا ترى العالم كما نراه نحن، بل كما تستشعره.
تبدأ القصة تلك من شواربها الطويلة التي تزين وجهها، والتي يظنها بعض الناس أنها مجرد زينة أو وسيلة للتعبير، لكنها في الحقيقة أجهزة استشعار متقدمة تفوق في دقتها كثيرًا من أدوات الإنسان الإلكترونية.
تسمى هذه الشعيرات بـ”الشوارب اللمسية”، وهي متصلة بأعصاب دقيقة تستجيب لأي تغيّر في الهواء. عندما تمر القطة قرب جدار أو ممر ضيق، تنحني هذه الشعيرات قليلًا بفعل تيارات الهواء، فترسل إشارات فورية إلى الدماغ تساعدها على رسم خريطة ثلاثية الأبعاد للبيئة من حولها، وكأنها رادار بيولوجي بالغ الحساسية.
بفضل هذا النظام، تستطيع القطة أن تتحرك في الظلام كما لو كانت ترى، وأن تحدد المسافة بين الأشياء بدقة مذهلة، من دون أن تلمسها حتى. بل إن التجارب في هذا النطاق أظهرت أن القطة يمكنها المرور في فتحة ضيقة لا تتجاوز عرض رأسها ببضعة سنتيمترات فقط، لأن شواربها تخبرها إن كان جسدها سيتسع للممر أم لا.
همسات لا تُسمع
القطط لا تسمع فقط ما نسمعه نحن، بل تتجاوز حدودنا السمعية،لآن الشوارب ليست سلاحها الوحيد، فهناك أيضا أذناها، اللتان تعملان مثل هوائيين مستقلين. يمكن لكل أذن أن تدور بزاوية تصل إلى 180 درجة، مما يتيح لها تحديد مصدر الصوت بدقة متناهية. وهي لا تسمع فقط ما نسمعه نحن، بل تتجاوز حدودنا السمعية، ففي حين يتوقف سمع الإنسان عند تردد نحو 20 ألف هرتز، تستطيع القطة التقاط أصوات تصل إلى 65 ألف هرتز، أي 4 أضعاف قدرتنا تقريبا. هذا يعني أن صرير فأر يسير في العشب أو جناح حشرة صغيرة يمكن أن يحدث “ضوضاء” في عالمها لا نسمعها نحن مطلقا.
وفي اللحظة التي تلتقط فيها أذناها ذلك الهمس البعيد، يدور الرأس باتجاهه بدقة قناص، وتثبت العينان الهدف في لمح البصر. هنا يأتي دور الرؤية الليلية، إحدى أعظم هبات القطط.

من الرؤية للشم
شبكية عين القطط تحتوي على عدد هائل من الخلايا العصوية الحساسة للضوء، وهي أكثر من تلك التي في عين الإنسان بعدة أضعاف. هذه الخلايا تجمع كل فوتون ضوئي متاح، مهما كان ضعيفا، ثم تُعيد طبقة عاكسة خلف الشبكية توجيه الضوء مرة ثانية إلى المستقبلات، مما يضاعف حساسية العين. ولهذا السبب تلمع عيون القطط في الظلام مثل الجواهر، فهي حرفيا تعيد إشعاع الضوء الذي تجمعه.
أما حاسة الشم فهي عالم آخر تمامًا؛ تمتلك القطة أضعاف المستقبلات الشمية الموجودة لدى الإنسان، وهذا يعني أن القطة لا تميز فقط بين الروائح، بل تستطيع “قراءة” قصص كاملة من خلالها، تعرف من مرّ في المكان، وما أكله،وأين اتجه.
هذه القدرة تجعلها خبيرة في تتبع الفريسة أو في تحديد حدود منطقتها، ويضاف إلى ذلك عضو خاص يُعرف باسم عضو جاكبسون، موجود في سقف فمها، يلتقط الجزيئات الكيميائية المتعلقة بالهرمونات والفرمونات، مما يمنحها “حاسة سادسة” للتفاعل الاجتماعي والتزاوج.
من خلال هذا المزيج المعقد من الشوارب والأذن والعين والأنف، تكوّن القطة عالما إدراكيا مختلفا كليًا عن عالمنا. بالنسبة لها، الظلام ليس غيابا للضوء، بل مسرحا غنيًا بالإشارات، والسكون ليس صمتًا، بل سيمفونية من الذبذبات والأنفاس والروائح.
القطط، هذه الكائنات الغامضة التي تتسلل بخفة بين عوالم الضوء والظل، تذكّرنا بأن الإدراك ليس مجرد ما تراه أعيننا أو تسمعه آذاننا، بل ما تستطيع الحواس مجتمعة أن تبنيه في أذهاننا من صورة للعالم.
فن السقوط
من بين أكثر أسرار القطط إثارة للدهشة، قدرتها على السقوط من ارتفاعات شاهقة والهبوط واقفة على أقدامها، وكأنها تتحدى قوانين الفيزياء.
في دراسة شهيرة عام 1984 في نيويورك، رُصدت 132 حالة سقوط لقطط من مبانٍ عالية وصلت إلى الطابق الـ32، ونجت من 90% منها رغم الإصابات، كما سُجلت حالات أخرى مذهلة في السنوات اللاحقة أثبتت أن لهذه الكائنات قدرة خارقة على النجاة.
اهتمام العلماء بهذه الظاهرة يعود إلى القرن الـ19، حين وثّق الفرنسي إتيان جول ماري سقوط قطة بالتصوير المتتابع عام 1894 ونشرت نتائجه في مجلة “نيتشر”.
أظهرت الصور أن القطة لا تتحدى الجاذبية، بل تُعيد ترتيب جسدها بذكاء في الهواء، وتلتف حول نفسها حتى تستقيم قبل ملامسة الأرض. وفي عام 1969، حلّل باحثان من جامعة ستانفورد هذه الظاهرة رياضيًا، فتبين أن القطة تعتمد على مبدأ فيزيائي دقيق، ألا وهو إعادة توزيع كتلتها في نصفَي الجسد بما يحافظ على الزخم الزاوي دون مخالفته. هذا السلوك الفطري يُطلق عليه “منعكس تعديل الوضعية”، وهو استجابة عصبية لاإرادية تُفعّل في أقل من 300 ملي ثانية، أسرع من رمشة عين بشرية.
يعتمد المنعكس على تناغم الجهاز الدهليزي في الأذن الداخلية، ومرونة العمود الفقري، وقدرة العضلات على التناسق اللحظي. حتى الهررة العمياء تُظهر المنعكس نفسه في عمر بضعة أسابيع، مما يؤكد أنه مبرمج عصبيًا. بهذه الآلية، تُعيد القطة ضبط جسدها في الفضاء لتسقط واقفة، وتحوّل كارثة السقوط إلى درس في عبقرية التوازن الطبيعي.
هذا الأمر يجعل أسطورة “القطة ذات السبع أرواح” في الثقافة العربية -أو 9 أرواح في ثقافات أخرى- أقرب إلى تفسير علمي منها إلى مجرد خرافة. فقدرة القطة المذهلة على النجاة من السقوط، بفضل “منعكس تعديل الوضعية” الذي يسمح لها بالهبوط على قوائمها الأربع، جعل الناس عبر العصور يظنون أن القطة لا تموت بسهولة، وأنها “تعود للحياة” بعد الحوادث التي كانت لتكون قاتلة لأي كائن آخر.